إعداد: فريق التحرير في LangWit
لا جدال في أن الحاجة للترجمة قديمة قدم اللغات، حيث لا يوجد طريقة للتواصل يبن الشعوب الذين يتحدثون لغات مختلفة إلا عن طريق الترجمة.
وربما يختلف تاريخ الترجمة من دولة لأخرى، ولكن معرفة المسار الذي اتخذته الترجمة عبر الحضارات، والوسائط الحديثة، والنظريات والدراسات سيعطيك لمحة من قصة رائعة تبدأ منذ العصور القديمة حتى يومنا هذا.
بات واضحا أن الترجمة قديمة قدم الحضارات نفسها، والشواهد على قدم ممارسة الترجمة مازالت ماثلة للعيان في كبرى المتاحف العالمية، مثل رسائل تل العمارنة التي تعود للقرن الخامس عشر قبل الميلاد والمكتوبة باللغتين الأكادية والمصرية القديمة، وحجر رشيد الذي يعود للقرن الخامس قبل الميلاد وكتب باللغات الهيروغليفية، اليونانية، والمصرية القديمة.
ليس ذلك فحسب بل إن بعض مصادر التاريخ الهامة مثل ملاحم هيرودتس تذكر بأن الشعب المصري كان مقسما إلى سبع فئات إحداها فئة المترجمين، ويشهد على ذلك أيضا الكثير من الرقاع والبرديات المترجمة من الهيروغليفية إلى اليونانية القديمة المعروضة في المتحف البريطاني ، فضلا عن أن نحو ربع الألواح التي وجدت في مكتبة نينوى الملكية كانت على هيئة قواميس وكتب قواعد للغات السومرية والبابلية و الأشورية.
الترجمة وانطلاقات النهضة
يكفي أن نشير إلى أن الترجمة كانت وراء أكبرانطلاقتين للنهضة. الانطلاقة الأولى تمثلت في عصر النهضة الإسلامية حين عمل المسلمون على ترجمة ونقل العلوم اليونانية والفارسية والهندية إلى العربية، بحيث عرفت هذه الفترة ازدهارا كبيرا في جميع أنواع العلوم من طب ورياضيات وفلك وكيمياء وجغرافيا… ومعروف ما قامت به دار الحكمة خلال الخلافة العباسية وأعلامها كحنين ابن إسحاق و يوحنا ببن البطريق وابن نعامة الحمصي وغيرهم.
ثم جاءت الانطلاقة الثانية مع عصر النهضة في أوروبا حيث تم ترجمة علوم المسلمين وتراثهم إلى اللغات الأوروبية واللاتينية، واعتبرت هذه العلوم المترجمة أساس ما وصلت إليه المجتمعات الغربية من تطور وتقدم، بحيث ظل بعض ما ترجم عن المسلمين يدرس في الجامعات الغربية حتى بداية القرن العشرين.
في هذا الصدد، يقول الدكتور عبد الحميد صالح حمدان “بفضل الترجمة تولدت الحضارة العربية والعلم العربي الذي ساهم في تكوينه مفكرون من مختلف القوميات والجنسيات، سريانيون وفرس وصابئة ومسيحيون نساطرة ويونانيون وأقباط من مصر وعبرانيون وهنادكة وأتراك وذميون، ولكن بلسان عربي، وفي ظل الدين الإسلامي الحنيف الذي لجأ إلى العقل ليحرك به الوعي الذاتي للفرد ويدفع به إلى الاستقلال في الرأي، ومن هنا تأكيد مبدأ “الرأي” و”القياس” و”الاجتهاد” في كل العلوم، وبخاصة الترجمة التي أصبحت القوة الدافعة للمذهب العقلي، والتي ربطت اللغة العربية بالمجرى العام للفكر الإنساني في تلك العصور”.
ويضيف أن “سماحة الإسلام ساهمت في انتشار الترجمة والتأليف، فظهرت مدارس الترجمة واشتهرت برجالها من أمثال بختيشوع وأسرته، وأبو يحيى البطريق وابنه زكريا، وأبو زيد حنين بن إسحاق العبادي وابنه يعقوب، وغير ذلك من طوائف المترجمين الذين كانوا من أصل صابئي وعلى رأسهم ثابت بن قرة الحراني، وهو من الذين مهدوا لحساب النهايات ثم التفاضل والتكامل، وهو صاحب ترجمة نظرية الاهتزاز الأرضي وكتاب الذخيرة في الطب”.
في الغرب يقولون إن أول ترجمة مهمة في العالم الغربي كانت من الكتاب المقدس العبري في القرن الثالث. حيث احتاج اليهود الذين نسوا لغتهم العبرية حين ذابوا في مجتمعات أخرى – احتاجوا لترجمتها إلى اليونانية، لذلك تم تكليف 70 مترجما لإكمال مشروع الترجمة الكتاب المقدس من العبرية إلى اليونانية.
الترجمة في اليابان
في مطلع القرن العشرين ازدهرت حركة الترجمة في اليابان ونشطت حركة البعثات التعليمية والتكنولوجية، كما نشطت حركة ترجمة العلوم والمعارف العلمية والنظرية والتطبيقية. واهتمت اليابان آنذاك ولا تزال بثقافة وعلوم وتكنولوجيا الغرب، وأقيمت مع بداية عصر الميجي المؤسسة الهولندية التي اضطلعت بأعباء إنشاء حركة ترجمة واسعة النطاق، وقرأ اليابانيون إنجازات أعلام الفكر والعلم في أوروبا.
كما عقدت اليابان اتفاقات مع كبرى دور النشر العالمية لإصدار طبعة باللغة اليابانية من إصدارات هده الدور حال صدورها بلغتها الأصلية. ويقدر عدد العناوين المترجمة في اليابان آنذاك في أوائل القرن العشرين بحوالي ألف وسبعمائة عنوانا سنويا. وهذا جهد مهول لا يضاهيه إلا جهد اليابان في محو الأمية تماما خلال بضع سنين والتوسع في إنشاء المؤسسات التعليمية والجامعات حتى سبقت في هذا المضمار أكثر البلدان الأوربية تقدما أنذاك.
الترجمة في الاتحاد السوفيتي
وكان هذا هو أيضا حال الاتحاد السوفيتي السابق في مستهل نشأته حين عقد العزم على النهوض من التخلف وقبول التحدي . فقد وضعت موسكو استراتيجية شاملة تضمنت جهازا للترجمة ضم أكثر من مائة ألف مترجم لنقل علوم الغرب إلى اللغة الروسية. وحقق هذا الجهاز إنجازات كبيرة وأصبح الإتحاد السوفيتي السابق موطنا للإنجاز العلمي . وتطورت اللغة الروسية لتكون واحدة من لغات العلم.
وكان الاتحاد السوفيتي قبل انهياره يضم أكثر من مليوني مترجم عن جميع لغات العالم، وما كان لهذا كله أن يتحقق لولا تطوير جذري في التعليم ، ولولا اقترانه بنهضة علمية ودعم المؤسسات العلمية، ولولا حشد جهود الترجمة والمترجمين في وضع مؤسسي مخطط ومنهجي ليكون نشاط الترجمة استجابة لحاجة مجتمعية.
الترجمة في العالم العربي
وفي العالم العربي، فإن تاريخ الترجمة خلال العصر الحديث يرجع إلى مطلع القرن التاسع عشر، حيث برز مركزان للترجمة في لبنان أثناء الحكم العثماني، وجاءت ولادة الترجمة هناك مرتبطة ارتباطا وثيقا بحركة التبشير في لبنان الذي تحول إلى أحد أبرز مراكز الحوار العربي – الأوروبي. وكان واضحا أن الهدف من الجماعات التبشيرية التأثير في الصراع بين تركيا وقوى أوروبية استعمارية تعمل على فصل المنطقة ثقافيا عن تركيا، وارتبطت معظم جماعات المبشرين بالقوى الاستعمارية الساعية للسيطرة على البلدان العربية.
وقدم لبنان بعد ذلك من خلال الجامعة الأمريكية في بيروت في مطلع القرن العشرين أعلاما في الترجمة أمثال بطرس البستاني الذي أصدر دائرة المعارف وأمين معلوف الذي أصدر معجم الحيوان والمعجم الفلكي ومعجم النبات ، وكذالك فارس نمر ويعقوب صروف ، وقد أصدرا معا مجلة المقتطف التي تضمنت الكثير من المقالات والدراسات المترجمة.
أما في مصر، فقد بدأت حركة الترجمة منذ أن تولى محمد علي السلطة في 1805، حيث عني بإرسال البعوث إلى أوروبا لتلقي العلم ونقل العلوم إلى العربية . ويعتبر الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي مؤسس هذه النهضة، إذ جعل الترجمة مؤسسة اجتماعية، تعمل على تنفيذ مشروع قومي اجتماعي لتحقيق تطور في العلوم والصناعات.
ثم كان للطباعة تأثيرا عميقا على نشر القراءة والكتابة، وبالتالي الترجمة، حيث ساهمت الطباعة في نشر الكتب . ثم توطدت أركان الدراسة الأكاديمية لعلوم الترجمة في الخمسينيات من القرن الماضي. وبعد ذلك بوقت قصير، بدأت تنتشر الكليات والمعاهد المتخصصة في الترجمة ونظرياتها وأقسامها المختلفة.
الترجمة في العصر الحديث
في الوقت الحاضر، يعمل المترجمون من جميع أنحاء العالم، بمساعدة أجهزة الكمبيوتر. وغالباً ما يختارون تخصصا معينا، مما يسمح بترجمات أكثر دقة. وخاصة بعدما توفر للمترجمين عددا من الأدوات والبرامج الخاصة بالترجمة تساعدهم في إنجاز مهمتهم بشكل صحيح.
وبتعدد وسائل الإعلام والاتصال والتدفق الهائل للمعلومات والتطور السريع في العلوم والتقنيات، ازداد التبادل التجاري والنشاط الدبلوماسي بين الدول بشكل غير مسبوق بعدما أصبح العالم قرية صغيرة، لكن قرية صغيرة بألسن متعددة؛ وهنا أصبحت الترجمة أكثر ضرورة لمواكبة هذا التغير السريع في شتى أنحاء الحياة.
كل ذلك جعل الترجمة مصدرا من مصادر الدخل الأساسية، وليست فقط مصدرا ثقافيا. فقد حققت وكالات الترجمة في جميع أنحاء العالم والبالغ عددها 23380 تعاملات مالية بحوالي 23.2 مليار دولار في عام 2009 ، ثم ارتفع إلى 26.3 مليار دولار في 2010، مع معدل نمو سنوي يقدر بـ 13.15٪ ، حتى صعدت إلى 37 مليار دولار في عام 2015 ، وما زالت صناعة الترجمة تنمو عاما بعد آخر.
مع أخذ كل ذلك في الاعتبار، فإننا في LangWit نود أن نشكر كل المترجمين الرائعين الذين يبذلون جهدهم ويساعدون عالمنا في السير على طريق النهضة والعلم والحضارة.
—
مصادر:
– عبد الحميد صالح حمدان. دور الترجمة في الفكر العربي. https://goo.gl/rptmkZ
– A Brief History of Translation – by KayWalten – https://www.wordbee.com/blog/localization-industry/a-brief-history-of-translation/